2014/05/06

لحراطين حتى 2014/تـــــدوينة:عبـــــاس براهــــام


يجب اليوم كتابة ملحمة الحراطين. لم يكونوا متعصبين، حتى منذ آلاف السنين، أيام عاش كل أحد آخر في جلباب أبيه. انتظروا أن يسخن الجو فانطلقوا. ألقوا عصا الترحال في المنطقة الخصبة، وسط البلاد. هل كانوا “بافوراً” أم كانوا بقايا “البيغمي” أم “الأثيوبيين” الذي تحدث عنهم هيرودوتس أم “الأثيوبيون البيض”، الذي أشارت إليهم الروايات بأسماء مختلفة: “السود البرص”، “الخلاسيون”، “السمر الباهتون”؟ الأرجح أنهم كانوا تعدداً إخصابياً نشأ من كل هذا. وكان من الواضح أنهم اختلفوا من البداية عن بقية السود في المجال: أسلاف السونينكي في الجنوب الشرقي والبولار القادمون من الشمال ومن الشرق (من القرن الإفريقي ومصر وربما أهقار وبرقة)، ولكن تعددهم الأصلي صبّ في اتجاه ثقافة واحدةً. طرق واحدة في الحرث، سقاية أمطارية. فقط مع مقدم البربر وربما أسلاف السونينكي ستظهر زراعة الري.
كان الحراطين منذ البداية شعباً أمطارياً. شعبٌ مرِحٌ لحين أن تدق ساعة العمل. شعبٌ غير اقتصادي، أي غير بخيل. شعب يتوكل على الله. لم يعبدو “البيدا”، الثعبان الكبير الذي عبده أسلاف سوندياتا، لأن الاقتصاد الديني عندهم، الأمطار القادمة من السماء، كانت دليلاً توحيدياً. لقد صنعوا معجزة في الاقتصاد القديم: ازدهار الكرم في مجتمع مستقر، غير مترحل.

ومن هنا جاءت المأساة: كرمهم، سخائهم، وسلميتهم انقلبت عليهم. فتكت بهم القبائل البربرية وشردّتهم في قمنورية وفي الواحات، وربما خضعوا للقبائل الضارية من بني وارث وبني ينتصر ثم طبعاً الجداليين، الذي ظل فيهم امتداد حرطاني مهم. من الأرجح أن البربر الأنباط وامتداداتهم المجهولة لنا في جنوب آدرار وفي واحات تكانت ولعصابة جعلت الحراثين (الحراطين؟) مدداً غذائياً شبه مستعبد، وذلك قبل ظهور العبودية النظمية منذ القرن السابع عشر أو الثامن عشر أو حتى التاسع عشر (هنالك خلافات أكاديمية مهمة حول هذا).
ربما هاجر الحراطين، الذي أصبحوا الآن يتماهون مع البافور إلى الترارزة من آدرار. بعد قرون قليلة ستحلق بهم جحافل البربر المهزومين في آدرار. ربما تم دفع حراطين منهم إلى الجنوب الأبعد. بعضهم بقي مستعبداً أو متحرراً في واحاته الصغيرة. ثم جاء بنو حسان. وتمددوا مع القرن السابع عشر. هؤلاء، البدو الطوال، حمر الأعين، الضارون، أصحاب الشعور المفلفلة، والنساء المتغنجات، أرادوا جعل الصحراء مكان رفاهية، وليس مكان شقاء. بدأوا في استقدام آلاف المستعبدين. أصبح الأمر طفرة ودخلت فيها القبائل الزاوية خصوصاً في الضفة اليسرى. تمّ الإتيان بهؤلاء الأفارقة وتمّ إلحاقهم بحراطين الصحراء القدماء. أتى بهم الاستعباد العسكري أو الديني أو الاستثمار التجاري (وليس لأن أهلهم باعوهم. تلك سخافة أذاعها الضمير الاستعبادي ليسكت ما بقيّ من وازعه).
بقي الحراطين شعباً مرحاً. يتقن لعب الدبوس والنيفارة، ذلك الجهاز التي أودعته الطبيعة شجن الحزن، وقد كانت أمداحهم النبوية إرثاً سيمائياً، يتم فيه إعادة الحياة العادلة في ظل الجناب النبوي العطر. يصبح بلال، وورزك وامبارك هم بلال النبوي وعنترة بن شداد العبسي. فضلوا هذه عن صعلكة السليك وخفاف بن ندبة. فضلوا النيفارة على السيف. أخذوا الناي وغنوا لحن الوجود.
المستعمر الفرنسي الذي حرّم تجارة العبيد ترك لحلفائه البيضان الحق في استغلال العبيد. في المقابل أطلق مجتمعات مارونز، مجتمعات آبقة (جامبور) كأمكنة حرية وحيدة. المستعمر جعل الحرية استثناءً، وأحياناً جرماً وأبقاً وليس أمراً بديهياً. ولكن تلك كانت بداية هرب آلاف العبيد إلى ألاك وكيفا حيث نعموا بحياة خالية من السياط، حياة أقل جوعاً. بعضهم بدأ حفر سدوده وواحاته. بعضهم ذهب للمدارس الفرنسية، برغم تكفيرات متعصبي البيضان.
ثم ذهب المستعمر. في هذه الأثناء كان الزوايا قد انتصروا على العرب. وظهر المختار ولد داداه على أنقاض أمراء الترارزة وتكانت وآدرار. توّحد البيضان، فقط ضد الحراطين. لا وظائف، لا ملكية عقارية، لا حقوق توريث، ظروف دراسية صعببة بسبب التورط في اقتصاد منزلي يدوي.
في الشمال ساهم التصنيع في تحرير الحراطين وخلق بروليتاريا مستقلة منهم. أما في الجنوب فقد بقي الحراطين الزراعيون تحت السلطة الإقطاعية للبيضان. ولكن أولاد هؤلاء المزارعين درسوا وتاقوا لمستقبل مختلف.
حتى 2000 كان الحراطين في الجامعة أمراً نادراً مقارنة بحجمهم السكاني. بعد الألفية تكاثرت الشهادات الحرطانية، التي بقيت مقموعة في ظل نظام التمثيل، الذي يُلحق الحراطين بتجمعاتهم القبلية المسيطر عليها بيضانياً. منذ الألفية تصاعدت تمردات الحراطين على نظام التمثيل هذا.
مسيرة 2014 هي مشروع عقد وطني جديد. لن تحلّ قضية الحراطين برشوة بعض الأطر الذين لا يمثلون إلا أذقانهم. القضية قضية شعبية. نظام التمثيل والتبعية لا يحلّ المشكلة. القضية تحلّ في إطار عقد وطني جديد يوجد فيه مواطنون وليس رعية، يوجد فيه موظفون وليس مصوتون، توجد فيه مساواة وليس محاصصة.
شعب الأمطار والصبر والملحمة قادم. إلى الأمام.
Abbass Braham

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لمـزيد من التفاصيل يرجى الإتصال بـ:
43434409(00222)